يتناول الكاتب بالمقارنة الفكر البلاغي والنقدي عند عبدالقاهر الجرجاني، والقاضي الجرجاني لتوضيح نقاط الالتقاء والتفرد، وقد رجع إلى مؤلفات الأديبين المدروسين بالإضافة إلى كتب التراجم والنقد، واستهل بالحديث عن العلاقة بين عبدالقاهر والقاضي، ثم قارن بين أفكارهما، فبدأ بتناول رأي عبدالقاهر في الألفاظ التي يستحسن أن يستخدمها الأديب بأن تكون مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، لا وحشيًا غريبًا أو عاميًا سخيفًا؛ ونرى القاضي يؤكد على تجاوب الأديب مع بيئته الحضرية باختياره من الكلام ألينه وأسهله وأرقه من غير ركاكة أو ضعف، فلا يكون ساقطًا سوقيًّا، ولا يكون غريبًا وحشيًا. والقاضي ناقد تجريبي يدعو إلى تطبيق العلم على العمل، وكثيرًا ما وضع هذا المقياس موضع التطبيق العملي في الوساطة عند نظره في شعر البحتري، وهو يرى أن الأدب يجب أن يكون مرآة لوجدان مستقبله، كما هو في الأصل مرآة لوجدان مرسله؛ وقد بنى عبدالقاهر على هذا الطّرح كتابه أسرار البلاغة، فهو يقيس كل الصور البلاغية فيه بمقدار تأثيرها في النفس، ويُسمّى ذلك في اصطلاح المحدثين "الاستبطان". ويرى القاضي أن أهم ما يمتاز به الشعر عن النثر أنه يتجه إلى مخاطبة الوجدان والعواطف، لا إلى الإدراك والتفكير؛ لأن غرضه الأساس هو الإيحاء بالحقائق والإحساسات لا شرح المسائل، ولذلك يسيطر على أساليبه الخيال والكنايات، واستخدام الكلمات والعبارات في غير ما وضعت له، ذلك كان رأيه في هذه الناحية من نواحي الإبداع الفني. وقد تبعه عبدالقاهر بدعوته إلى أن تكون معاني الأدب في منزلة وسط بين الوضوح والغموض فلا هي سافرة صراحة، ولا هي مطبقة الخفاء، وبذا يكون نيلها أحلى وموقعها من النفس أجل وألطف؛ لهذا فقد اتفقا على ذم التعقيد. وتحرز العقلاء من نقاد الأدب عن القول باختراع المعاني، أو بسرقتها، وكان القاضي من هؤلاء إذ اعتذر عن الحكم بخلق المعنى وابتكاره أو السبق إليه عند هذا الشاعر أو ذاك من غير تشكيك في قدرة الشاعر. ويشرح الكاتب تقسيم القاضي للمعاني وآراءه في سرقتها، ولعبدالقادر آراء منسجمة معها.
|