هذه تكملة لمقالة الباحثة المنشورة في العدد السابق بشأن الموروث الثقافي في أشعار جرير والفرزدق والأخطل، إذ تناولت معالجة الدهر والموت فيها، وقد وضّحت كيف ربط جرير والأخطل بين الدهر والموت في شعرهما، وأُشير إلى التشابه بين مضمون الفرزدق ومضمون جرير من حيث كون الدهر مخلوقًا له أيد وأنياب وأضراس، ويعكس هذا التصوّر الوهم القديم الذي كان سائدًا عند العرب. وإن صور الدهر والمنية عند الفرزدق قد تفوقت على مثيلاتها عند صاحبيه، ولا يخرج عن الروح الجاهلية من ناحية فنية، ولا سيما أن أخلاقه تتصل بالأخلاق الجاهلية وما تنطوي عليه هذه الأخلاق. وقد كان الفرزدق نبعًا ثرًا من ينابيع الشعر، وكثر عنده ذكر أيام العرب، وهي أيام ينضح شعرها سلوكيات ذات جذور تمتد في عمق الفكر الحضاري العربي القديم مما هيّأ له مرتعًا خصبًا لاستيعاب الموروث واسترفاده فنيًا في تصويره للدهر وفعله. وإذا كان الدهر لا يفنى عند جرير، فإنه يفنى عند الفرزدق. وبما أن الموت إسلاميًا يفنى ولا يبقى إلا وجه الله سبحانه وتعالى، فإن الدهر إذن سيفنى كما يقول الفرزدق في شعره، وأما المنية فكانت أقل ورودًا عند الفرزدق. ثم تناولت الباحثة البين في شعر جرير، وربطت ما بين البين أو الفراق والغراب في الموروث، والغراب في هذا الموروث يبدو مشؤومًا كريهًا، وخرافة البين ورمزه الغراب خرافة عربية خالصة كوّنها الخيال العربي، وسكنت في وجدان القوم من قديم، ثم وصلت إلى فكر شــعرائهم فصــدروا عن هذا الفــكر بكل واقعيتـ_ه ووهمه. وإن التشكيلات الخرافية التي أبدعها الشعراء في بعض المتوهمات قد تناولت الغول الذي اعتقد أنه كائن حقيقي ذو قوى خارقة، كما تناولت الجنّ، وكذلك الرقى والتمائم والسحر. وانتهت الباحثة إلى أن الموروث الثقافي قد لوّن كثيرًا من الصور الشعرية للشعراء المبحوثين، وأهم شرائحه الموروث الشعبي والخرافي الذي يستمر استمرار الإنسان.
|