تناول الكاتب دور الثقافة في العملية النقدية، للكشف عن مدى أهمية ثقافة الناقد ومعرفته بالتقاليد الفنية للشعر في رؤيته وأدائه، مما يتطلب اطلاعًا واسعًا وإحاطة دقيقة بالنتاج الشعري عند العرب حتى يتسنى له الوقوف على النماذج الشعرية البارزة في كل العصور وعوامل تفوقها، كما يتطلب الأمر اتصاله بحركة النقد الأدبي عند العرب على مر الزمن، ومعرفته بعلاقات التأثر والتأثير بين الشعر العربي والأجنبي، وقد رجع إلى مصادر الدراسات النقدية والشعرية. واستعرضت كتابات نقدية مختلفة لنزيه العظمة الذي كشف عن الارتباطات بين الأسس الجمالية لشاعرين، (إيديث سيتول )، وبدر شاكر السياب من خلال إبراز تأثير قصيدة الشاعر الإنجليزي (ما يزال المطر يسقط) في قصيدة السياب (أنشودة المطر) . وقد استطاع الناقد علي عشري زايد بثقافته الغزيرة أن يحدد استلهام صلاح عبدالصبور للموروث الأدبي في أوروبا كما ظهر في قصيدته (لحن) التي وظف فيها شعر شكسبير وإليوت. وتتطلّب قراءة الشاعرية من الناقد أن يلتفت إلى جماع الأدوات التي يستعملها الشاعر في صناعته، فهو في حاجة ماسة لمعرفة عناصر الفن الشعري المنقود؛ فالشعر مثلاً يتكون من عدة عناصر كاللغة ومعاييرها، والخيال وحدوده ودوره في صنع الصور على اختلاف هيئاتها وتشكيلاتها، والموسيقا والبناءات الفنية للقصيدة وأنواعها كالتوقيعية والحلزونية واللولبية والدائرية والسطحية والعميقة وغيرها. إن معرفة الناقد للظواهر اللغوية تتيح له إمكانية ملاحقة الشاعر في استعمالاته للتكرار والاشتقاق والمشاكلة والاشتراك اللفظي والترادف والتضاد وغير ذلك مما ينير طريق الناقد في قراءته للنص الشعري ودراسته. ولا يستطيع الناقد أيضًا إغفال القوانين النحوية والصرفية في عمله؛ لأن تحركه في إطار النص المنقود يكون عبر العلاقات النحوية بين الكلمات وما تصنعه من قيم ودلالات تتلقفها التركيبات الشعرية للتعبير عن رؤى الشاعر. ويحتاج الناقد أيضًا إلى ثقافة رحيبة ينميها بقراءته في علم النفس والأساطير والفلسفة والتاريخ والحضارة والقصص الديني والتجارب الصوفية. والخلاصة أن شخصية الناقد تعد مصبًا لروافد ثقافية غزيرة جارية من غير توقف.
|