دخل عنصر الفكاهة في الشعر العربي منذ عصوره الأولى، فلما جاء العصر العباسي اتسع مجال الفكاهة فيه كثيرًا، وتناول الكاتب ذلك بالتحليل والتوضيح، وقد رجع لمصادر الشعر العباسي ودراساته وتراجم رجاله. وأوضح أن شعراء الفكاهة سلكوا كل طريق مفضٍ إليها، فتناولوا أحوال رفاقهم وعيوبهم، ونظروا في أنفسهم، وصوروا المواضع التي استثارتهم فيها بقالب فكاهي ساخر يبعث على الابتسامة والضحك، مما يدل على روحهم الخفيفة التي عشقت المرح والتظرف وتحقق الاحتشام في آن واحد. وقد استهل معالجته بتناول شعر البحتري الذي داعب فيه جارًا له منهومًا يدعى ابن جبير، فأبدى شكواه من كثرة زياراته له وتردده على منزله في كل وقت طمعًا في الطعام، فقد كان يزوره في الصباح، ويطالبه بتقديم الغداء مبكرًا، فإذا قدم إليه أتى عليه وهضمه بسرعة وكأن معدته مطحنة، وكأن يده لم تتوقف ولم تكل من رمي اللقم في بئر عميقة ليس لها قرار، ولم يخش الشاعر على طعامه بقدر ما خشي على آكله من أن يموت مختنقًا به. ثم تناول موقفًا فكاهيًا آخر للشاعر كشاجم الذي استمدَّ فكاهته من دعوة صديق بخيل له إلى الغداء، فلما جد الجد وجيء بالخوان تغيرت أخلاقه وتجهم وجهه ضنًا بالطعام وحرصًا عليه مما اضطر الشاعر إلى اختلاس اللقمة اختلاسًا خوفًا من صاحبه المقتر الذي كان يراقبه، ولما سحب رجل دجاجة ليأكلها جرّ المُضيف رجله. ثم تناول الكاتب موقفًا فكاهيًا آخر للبهاء زهير داعبَ فيه صديقه حين هجا بغلته هجاء دار حول بطئها الشديد وكأنها كانت تسير إلى الوراء عندما كانت تتحرك. ومن القصائد الفكاهية ما أنشأه ابن الذروي في صديق أحدب هجا حدبته، ثم اعتذر له وامتدحها في قصيدة ساخرة يصور فيها حدبته مظهرًا من سمات الحسن. وقد استعرض الكاتب الصور المختلفة للشعر الفكاهي، وأوضح ما استخدمه الشعراء فيه من المحسنات اللفظية والكناية والاستعارة والتشبيه، وقد حملت فكاهاتهم بعض المؤشرات الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والدينية والنفسية، وانتهى إلى أن الشعر الفكاهي في العصر العباسي جاء انعكاسًا للحياة فيه بإيجابياتها وسلبياتها.
|