ازدهرت مكة المكرمة فكرياً، وأصبحت مقصد العلماء في كل فن، حتى عدّت من أكبر المراكز التي يفد إليها مئات الآلاف من المسلمين في كل عام لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام "الحج"، ومعهم المئات من العلماء وطلاب العلم الذي يجاورون بعد انتهاء الموسم، وبهم تعقد الحلقات العلمية، وتلقى المحاضرات الدينية، وأصبحت بذلك مكة المكرمة من أهم مراكز الإشعاع الثقافي والديني، وبرز التنافس العلمي الشريف بين العلماء، وأدى إلى ازدهار ونمو الحركة العلمية بمكة المكرمة. كما احتوت العديد من الثقافات التي لا تتوافر في أي مدينة أخرى، وشهدت بذلك تطوراً ثقافياً بارزاً، وسادها جو من الثقافة والحضارة الإسلامية خاصة في مجال الدراسات الدينية، وانفردت عن غيرها حتى صارت مركزاً للهداية والإرشاد ومنبعاً للإشعاع الروحي. وتذكر لنا المصادر التاريخية المكية توهج بعض أمراء الحجاز ممن كان لديهم توجه علمي ملحوظ، ورغبة في العلم، فقد كانت مجالسهم ندوات تحفل بكبار العلماء، كما تتجلى في كثير من الأمراء روح البحث العلمي؛ مما دفعهم إلى تسجيل آثارهم العلمية من عمارة ومكتبات وإنشاء مدارس وأوقاف لطلبة العلم(1). واتسعت دائرة الاهتمام حتى شملت السلاطين والأمراء في الدول الإسلامية والبيوت العلمية ذات الثراء بالحركة العلمية، وإغداق الأموال على العلماء والمجاورين والإسهام في استحداث مدارس وأربطة(2)، فتمدنا المصادر التاريخية أن عدد المدارس أصبح في القرن العاشر الهجري أكثر من ثلاثين مدرسة(3)، كما انتشرت حلقات الدرس في الأربطة التي أغلب سكانها من طلاب العلم، فقاموا بتغذية الأربطة بالكتب مستمرة من قبل الساكنين خاصة في أربطة النساء؛ مما جعلها تسهم بشكل إيجابي ملموس مؤثر في تنشيط الحياة العلمية، وتصبح مناراً للعلم والإقراء والتثقيف، وأدى ذلك إلى ازدهار التأليف في شتى العلوم والمعارف. ولم يقتصر العلم والتصنيف على الرجال بل لقد اشتهر بمكة المكرمة الكثيرات من العالمات اللاتي تحدثت عنهن كتب الطبقات(4).
|