البحث في المجلة العنوان حول مسألة: رقم السنة : التاسعة والثلاثون
أختر نوع البحث المؤلف د. تركي بن فهد بن عبدالله آل سعود التنصنيف بحوث رقم العدد : العدد الاول
الاعداد السابقة

كان علم التاريخ، كغيره من العلوم الإنسانية، وما يزال عرضة للجدل الدائر في الغرب منذ القرن التاسع عشر الميلادي (عصر التنوير الأوروبي)، حول مدى علمية الدراسات الإنسانية. وسيركز هذا البحث على ما انتقل إلينا من هذا الصراع، مما لم يكن له أن ينتقل. فهناك جوانب في هذا الجدل يعد انتقالها إلينا منطقيًا وطبيعيًا، ولكن الجانب الذي سيتناوله هذا البحث "هل التاريخ علم أم فن؟" ما كان له - في رأيي- أن ينتقل أصلاً؛ لعوامل لغوية كانت السبب في نشأته في الغرب. ولكي يُقَدَّم الموضوع بشكل مترابط متسلسل، لابد أولاً من الحديث عن بداية الحركة العلمية التنويرية في أوروبا، وسوف يكون التركيز هنا على علماء التاريخ. ثم يتناول البحث سبب الجدل اللغوي، ثم يبيّن لماذا نحن في منأى عنه في لغتنا العربية. العصر العلمي بأوروبا منذ القرن التاسع عشر الميلادي (الدراسات التاريخية): لعلنا لا نبتعد كثيرًا عن الدقة إن قلنا إن المؤرخ الألماني ليوبولد فون رانكه (ت 1886م) (Leopold von Ranke) كان من المحركات الأساسية لإدخال علم التاريخ في أوروبا إلى الجامعات كتخصص مستقل بذاته(1)؛ فقد كان لتقديمه تقنية دراسة الوثائق وألفاظها، وتشديده على التفريق بين المصادر والمراجع، أثرٌ كبيرٌ في أوروبا في حقل الدراسات التاريخية(2). وهذا ما أدى إلى اعتبار أن علم التاريخ أصبح "علمًا تطبيقيًا" كغيره من العلوم التطبيقية. كما تُصوِّر عبارة هيربرت آدمز (Herbert Adams) عن قسم التاريخ في جامعتي برلين وجوتنجن (Gottingen)، أنه "تطوّر من حاضنة للعقائد، إلى مختبر للحقائق العلمية"(3). وعلى الرغم من الانتقادات التي حاولت نقض هذا التوجه، فإن الفكرة قد تطوّرت بشكل أكبر، فنجد مثلاً ج. ب. بيوري (J. B. Bury) يقول في محاضرة ألقاها في جامعة كيمبردج عام 1903م: "واسمحوا لي أن أذكركم بأن التاريخ ليس فرعًا من فروع الأدب. فحقائق التاريخ كحقائق الجيولوجيا، أو علم الفلك يمكن أن تكون مادة للأدب؛ [ولكنها ليست منه]"(4). استمرت هذه المحاولات بين أخذ وردٍّ، وإقدام وتراجع، إلى عشرينيات القرن العشرين الميلادي، عندما أدت الأجندات السياسية، في أوروبا، دورًا كبيرًا في دحض فكرة علمية التاريخ. فبدا أن تلك الأساليب والتدريب العلمي لم يؤثرا أبدًا في إنتاج موقف محايد وموضوعي وحُرٍّ للمؤرخين في أوروبا، تجاه التاريخ المعاصر، وظهر ذلك جليًا خلال النقاش الحاد بين كبار مؤرخي أوروبا الأكاديميين حول موضوع أصل الحروب، ودعمهم جميعًا لأجندات حكوماتهم بأساليب اعتبرها نقادهم أبعد ما تكون عن الأساليب العلمية التي نادوا بها من قبل(5). وفي ستينيات القرن العشرين، بدأ مؤرخو أوروبا بالتوجّه مرة أخرى نحو علمية التاريخ بأسلوب جديد. فأدخلوا العلوم الاجتماعية الأخرى كتخصصات فرعية في التاريخ، ومن أشهر أعلام هذه الحركة إدوارد هـ. كار (Edward H. Carr)(6). ومع دخول الحاسب الآلي إلى الجامعات، واستخدام العلماء إياه في أبحاثهم العلمية التطبيقية، ظهرت دعوات أخرى بين المؤرخين تنادي باستخدامه في الأبحاث التاريخية؛ لتحقيق العلمية بها، وقسموا التاريخ إلى نوعين: تقليدي، يعتمد على البحث الإنساني؛ وعلمي، يعتمد على استخراج الحاسب للمعلومات وتحليلها، وهذا النوع - كالعلوم التطبيقية - ليس موجهًا إلى عامة القراء، بل إلى دائرة صغيرة من العلماء المختصين