الاعداد السابقة
|
دوَّن ابن خلدون حياته في كتاب، ينتمي إلى ما نسميه اليوم بالسيرة الذاتية أو الترجمة الشخصية، وَسَمَه بـ: التعريف بابن خلدون ورحلته غربًا وشرقًا(1)، ونقف فيه على أصول هذا الجنس الأدبي، المستحدث مفهومًا ومصطلحًا، في التراث العربي، بوصفه صاحب النص التأسيسي الأول المتمثل لمفهوم السيرة الذاتية وإشكاليتها وقضاياها من ناحية، وبوصفه أول المستفيضين في الكتابة عن أنفسهم من ناحية أخرى(2). فالكتابة عن الحياة الشخصية أو رواية حياة المؤلف بقلمه تحدد وجهة نظر صاحب السيرة راويًا وساردًا في آن واحد، وهي تمثل السيرورة الفردية ضمن سياقها العام، فالسارد ينتج حياة أخرى، يجدر بنا تسميتها بالحياة النصية. فما مفهوم السيرة الذاتية لدى ابن خلدون؟، وهل هيأ لها من العناصر الفنية ما يقربها من السيرة الذاتية بالمفهوم الحديث؟، وما الإشكاليات الفنية التي يطرحها هذا الفن لديه؟ وما مقوماته الفنية؟ تقديم: إن المؤرخ كثيرًا ما يتفاعل مع أحداث معينة، ويحكي بضمير المتكلم قصة تفاعله الشخصي مع هذه الأحداث بعد انقضائها عبر تقديم اعترافات وتصريحات عن أناه وتفاعلها مع الأحداث، فتقترب من حيث انتظامها البوحي من القالب السير ذاتي؛ لانجلائها عن تجربة ذاتية في الحياة السياسية والاجتماعية في دول متعددة. وتنبني هذه العملية على مؤشرين: الحاضر الذي يبحث على الاستذكار والعودة إلى الخلف. وينطلق هذا المؤشر من لحظة الكتابة نفسها، ولعلها تستند إلى قرار واع بإحياء فترات أسبق من الوجود عن طريق الاستحضار، ولذلك نجد أن ما يستحضره ابن خلدون هو جملة الوقائع والمشاهد والتجارب التي مرت بها حياته، والماضي الذي تختزنه الذاكرة، وتستحضره، وهذا الاستحضار يشوبه عطل لذلك كان يشير باستمرار إلى انخرام الذاكرة. تداخلت السيرة والرحلة في كتاب ابن خلدون، لكن رحلته كانت طوعية، لذلك غلب المنحى التاريخي على المنحى الغنائي، وإن لم نعدم بعض خلجات نفسه في سياقات متنوعة، ترسم ملامح اغترابه أحيانًا، وتنمي الشعور بالانكسار الذاتي الفادح أحيانًا أخرى. قدم ابن خلدون نفسه في سيرته ضمن محددين اثنين هما: العلم والسياسة، وصوّر التجربة الحية الصادقة التي عاشها في نطاق المجتمع، متصلة بالأحداث العامة، منعكسة عنها ومتأثرة بها، وتتبع مراحل حياته وتقلبه في المناصب إلى قبيل وفاته بقليل. وقد كان لشخصيته القادرة على الاتصال والانفصال، أو التغلغل والتحليق بعد نفسي، أثار جدلاً كبيرًا، فكتب سيرته من وجهة نظره، ليقدم نفسه كما رآها هو، مسوغًا لسلوكه ضمن إطار تاريخي، فحدَّد بذلك دوافعه التي تتلخص في الدفاع عن نفسه، فظهرت أناه بوضوح، فكان ساردًا للأحداث، معززًا الوقائع بإثبات التأريخ، معلنًا أسماء الشخصيات التي عاصرها، والأماكن التي شكلت فضاء تحركاته، فأضفى على ما كتبه الواقعية والصدق. صاغ ابن خلدون سيرته الذاتية بأسلوب واضح ولغة سامية، توافر لها سلاسة السرد القصصي، فكانت لغته عونًا له في إعادة الماضي وبعث الحياة في تجاربه، فكشف عن تحول مسار شخصيته من الطفولة إلى الشباب، ثم الكهولة، فالشيخوخة، وعني بعنصري الزمان والمكان، وأثبت بعض الرسائل، فكانت سيرته "أقرب التراجم الذاتية إلى الترجمة الذاتية الأدبية بمعناها الحديث، لأنه توافر فيها أكبر قدر من المنفعة إلى جانب تصوير ما نستدل منه على السمات المميزة لشخصية صاحبها، وعلى مدى التطور الذي طرأ عليها، وما دار في نفسه من ألوان مختلفة من الصراع مع مهارة في السرد الأدبي الذي يعتمد كثيرًا من عناصر الفن، وعلى الدقة والوضوح والسهولة والعذوبة، ويعتمد أيضًا على قدر من الترابط في أجزاء كل ترجمة ذاتية، مما يجعلها عملاً يقوم على وحدة البناء في أكثر أجزائه"(3). وهذه عوامل تحقق المتعة الأدبية، وتثير التعاطف الوجداني بين ابن خلدون ـ كاتب الترجمة الذاتية ـ وقارئها، ويدعوه إلى المشاركة في تجاربه ومشاعره، ويحمله على التدخل لتغيير مساره إذا ما تعثر، ولا يقلل من قيمة هذه السيرة، أنه خرج على واقعه الذاتي، حين تناول أحداثًا وشخصيات خارجية، وأثبت رسائل وأشعارًا مطولة، إذ إن هذه الاستطرادات لم تكن عبثًا، بل أسهمت في إضاءة الجانب العاطفي الذي لم يكن واضحًا في تلك السيرة. إن كلمتي السيرة الذاتية والترجمة الشخصية تترادفان في التراث الأدبي عند العرب، وتدوران على معنى "تاريخ الحياة"، إذ اتخذ التأريخ للفرد صورًا مختلفة لديهم، وكانت السيرة أولى هذه الصور، وعنت حياة الرسول الكريم
|
|