الاعداد السابقة
|
كان شعر أبي الطيب المتنبي في بلاد الشام بصفة عامة يمثل قمة النضج إلى حد كبير، وتتناول هذه المقالة قصيدته النونية في مدح عبيدالله (عبدالله) محمد بن عبدالله بن محمد الخصيبي القاضي الأنطاكي وتهنئته على توليه منصب القضاء الذي استحقه عن جدارة، وقد تجاوز هدف المتنبي في قصيدته المدح، ويكاد المتنبي يقسم مضمون القصيدة بينه وبين ممدوحه، فيستأثر هو بالنصف الأول من النص الذي يفيض عاطفة وحيوية وثراء، ويدع النصف الثاني من القصيدة للخصيبي ومن يشترك معه في صفاته التي لا تميز فيها ولا تفرد، ومن هنا نستشعر طغيان شخصية المتنبي وحضورها الغلاب ووجودها في بؤرة النص. ويطرح مطلع القصيدة قضية عامة يعيشها المجتمع، وتعني أن الفضلاء يعيشون في وضع غير ملائم، ويعانون من مرارة الواقع الذي يصطدمون به؛ لأنه لا يحقق أمانيهم العذاب في صنع قيم ناجعة وعلاقات مثمرة، فصاروا مرمى لسهامه الطائشة التي تنال منهم وتدميهم، أما العامة والدهماء ممن لا قيم لهم ولا مثل عندهم فيعيشون في راحة وخلوّ بال وسعادة! وهذه القضية ليست قضية المجتمع الذي عاشه المتنبي ولا قضية الفضلاء أو الصفوة، بل هي قضية كل مجتمع يتصارع فيه المثال أو النموذج الأسمى، مع الواقع السيئ والسواد الغافل، ولذا نجد المتنبي يوظف الإيقاع الموسيقي ليتصاعد بالصراع فنيًا إلى غايته. ثم يتناول الكاتب بالتوضيح صور المتنبي وهو يطبع علاقاته ويواجه القاع الاجتماعي في مرحلة يعد فيها نفسه لأداء دور ينتظره طويلاً أو ينتظر هو أداءه منذ وقت طويل، ويقدم المتنبي لمسة ذاتية تعبر عما يكابده إزاء واقعه فيتعجب من حاله وزمانه، ويهجو من خذله، ثم يلج إلى موضوعه في مدح الخصيبي الذي يبدو في نظره صورة متكاملة لما ينبغي أن يكون عليه القاضي، ويضع ممدوحه في دائرة الحضارة العربية الإسلامية من خلال عرض نسب الخصيبي. وإجمالاً طغت شخصية المتنبي على القصيدة التي قدّم فيها تعبيرًا صادقًا راقيًا.
|
|